ثلاثية الروح والعقل والقلب
المدرب احمد لطفي شاهين
فلسطين المحتلة
في أحيان كثيرة يتصل بي احد الأصدقاء او الأقارب يطلب مني ان اكتب في
موضوع معين او انتقد ظاهرة معينة وبصراحة اخجل من ذلك الطلب واشكر من يطلب مني ذلك
على ثقته وبنفس الوقت اشعر ان طلبهم يدل على رضاهم عن ما اكتب وان كتاباتي تلامس
تفكيرهم و نفوسهم ورواحهم وتتطابق مع مشاعرهم وأفكارهم ورغباتهم ويقول البعض لي
كأنك تتكلم عني وطبعا هذا الشيء يسعدني وهذا
بتصوري دليل ايجابي على واقعية ما اكتب
رغم ان البعض ينتقد كتاباتي بسبب انها احيانا لا تعبر عن ما يريد هو او انه
كان المفروض اقول كذا وكذا ليكتمل المقال اوان كتاباتي شعبية وبسيطة وليست وفق
معايير كتابة المقال الصحفي - والتي لا اعلمها اساسا- فأنا لست صحفيا ابدا.. ورغم انني ربما استطيع ان اكتب في المواضيع التي
يطلبوها وأحيانا بسهولة لكنني في نفس الوقت لا استطيع ان اكتب الا عندما اريد انا
ان اكتب من داخلي فأنا لست وزيرا للداخلية لكي اسجل مواقف فورية عقب كل حدث او
ازمة او قضية لأن الكتابة تعبير عن افكار
تتفاعل في نفسي قبل ان انطقها او اكتبها وهذا التفاعل هو احساس خاص تجاه قضية او موقف معين و لا يمكن ان يكون الإحساس تعبيرا
عن رغبة خارجية لمن يطلب مني الكتابة لذلك اكرر شكري لمن يطلب مني ان اكتب واطلب
منه ان يجرب ان يكتب هو وان ينشر هو كتاباته لانه سيكون اصدق مني في تعبيره مهما
كان بسيطا لانه سيكتب احساسه من قلبه وروحه هو وسيصل إحساسه الى الناس وليس ضروريا
ان تكون صحفيا لتكتب واعتقد ان وجود
معايير ثابتة او قوالب معينة للمقال تؤدي الى قتل الروح الصادقة في الكتابة لان
الكلام يجب ان يعبر عن الاحساس ويصدر عن القلب ويعبر عن القناعات وان يكون تلقائيا
عفويا فالعفوية والتلقائية قوة حقيقية وليست سذاجة .... العفوية والتقائية تعني ان
ينطلق قلمك ولسانك بكل ما يشعر به قلبك وروحك وعقلك ببساطة وسلاسة وسهولة وصدق وحب
للناس وسيشعر الناس بحبك لهم وحرصك عليهم ولذلك يجب ان لا يكون هناك مسافة فاصلة
بين شعورك وكلامك حتى يظل تعبيرك صادقا وليس مصطنعا فمن يتكلم من قلبه بمحبة للناس يصل كلامه الى قلوب الناس بلا
مقدمات
في احدى المحاضرات طلب مني احد الطلاب في القاعة ان اتطرق الى موضوع
معين من خلال الشرح ولكنني تصرفت بشكل لم يتوقعه واعلنت للحضور ان احد المشاركين
طلب مني الحديث في محور معين وطلبت منه ان يقف ويتكلم كما يريد وتفاجأ جدا من
تصرفي وبعد تردد واحراج وقف وتكلم وتلعثم بالبداية لكن مالبث ان انطلق معبرا عن ما
يدور في قلبه متكلما بروحه وبشفافية عالية وصدق وحرص ومحبة للناس وكان دور العقل
هنا مجرد الترتيب والتنظيم لا التحكم فقط وختم كلامه وصفق له الجمهور تصفيقا حارا
جدا لانهم شعروا بصدقه في ذلك المحور ووصل كلامه الصادر من قلبه الى قلوب
المستمعين
ان العقل والقلب والروح ثلاثي متكامل وبدون ذلك التكامل لا قيمة للجسد
ولا يجب ان يسيطر واحد على الآخر من ذلك الثلاثي ولا يجب ان نسمح للعقل فقط ان
يسيطر على القلب والروح... فالعقل وحده يجعلنا مجردين من الإحساس ... فالعقل وحده
الخالي من تكامل الروح والقلب هو المسئول عن صناعة الأسلحة بكل أنواعها والتسبب
بمقتل ملايين البشر عبر التاريخ واعتقد انه لا فائدة من وجود العقل اذا كان يمتلك
صاحبه علما مجردا من الإحساس الروحي ومجردا من العواطف القلبية.... واعتقد انها
مصيبة اذا كان العلم لا يؤثر في صاحبه ولا يطبقه على نفسه أصلا..... فمن يتعلم
ويمتلك علما وعقلا يجب ان يسعى للتكامل الروحي والقلبي و العقلي حتى يؤثر فيه علمه
ويكون مهذبا ومحبوبا ومؤثرا في الناس.... وفاقد الشيء لا يعطيه ولن تستطيع ان تؤثر
في الناس الا اذا كنت انت متأثرا بعلمك وصادقا في كلامك ومطبقا لما تقول على نفسك
بصدق ويكون كلامك تجربة شعورية صادقة ورائعة... لهذا كثيرا ما يؤثر فينا كاتب او متكلم بسيط
وتصل كلماته الى قلوبنا وتتلامس مع أرواحنا لان بصمة روحه ملموسة في كلامه بينما نجلس أحيانا أمام بروفيسور ونشعر بالملل
منه لأنه يتكلم بعقله فقط وفق معايير علمية وحسابات دقيقة مجردة من الروح والإحساس
..... إذا ... الروح هي كلمة المرور ... الروح هي سر الوجود .. بالروح أنت تسمو
بنفسك وبغيرك واذا فقدت روحك فقدت حياتك
واذا فقد الكلام روحه فقد حيويته وطعمه وقيمته ومعناه ... الروح هي قانون الوجود كله لذلك عندما يموت الإنسان
تخرج روحه وترتقي الى السماء ولا تدفن معه ويبقى الجسد تحت التراب للتعفن والتآكل
وهذه إشارة من الله تعالى لنا ان الروح مقامها عالي في الأرض وعالي في السماء فهي
نفخة من روح الله ويجب ان نستشعر تلك العظمة في أرواحنا فنحن نحيا من روح الله
ويجب ان نحافظ على رقي وشفافية أرواحنا
لذلك عندما تتكلم ولا يصل كلامك الى من تتكلم معه ولا يقتنع ولا تسيطر ...فعليك ان تقف وتتسائل لماذا ؟؟؟
وسيكون هناك عائق هو الخلل في روحك وقلبك او في روح المتلقي وقلبه
وينطبق هذا الكلام على مواقع
التواصل الاجتماعي حيث لا حدود للنشر ولا قيود وكل انسان يكتب بحرية مطلقة ويعبر
عما يجول بخاطره فورا سواء في بوست او منشور اوتصميم او تعليق او صورة او أي وسيلة
المهم هناك حرية نشر مطلقة ولكن ما يجذب الناس لمتابعة انسان دون انسان هي بصمة
الروح وصدق الكلام النابع من القلب والاحساس
خصوصا من اولئك الذين يظهرون بأسمائهم الحقيقية وليست المستعارة حيث لا
يوجد عنده ما يخفيه ويكون اكثر احتراما وصدقا لمجرد انه يتعامل بالاسم الحقيقي
ويكتب بصدق وشفافية روحية عالية ويكتسب الاحترام والتقدير لانه صادق اما صاحب الوجوه المتعددة والحسابات المتعددة
فإنه سرعان ما يسقط لان حبال الكذب قصيرة وسيشعر بكذبك من يتعامل معك حتى ولو كان
من خلف الشاشة لان القاري يلمس روح الكاتب من بين سطوره ويشعر بحرارة قلبه وصدقة
من خلال تعبيراته الصادقة لذلك انصح الجميع ان لا يتقمص شخصية تختلف عن شخصيته
الحقيقية وان يكون كل انسان على طبيعته صادقا معبرا عن قناعاته وروحه وشخصيته
الواقعية على الأرض لاننا انصدمنا فعلا باشخاص تعاملنا معهم عبر الشاشات وظننا
انهم آيات لكننا عندما تقابلنا معهم اكتشفنا انهم شياطين بشخصيات تختلف عن تلك
التي رسمناها في مخيلتنا لهم وبالتالي سقطوا من عيوننا فورا وتوقفنا عن التعامل
معهم لانه من المفروض على من يكتب عن
التدين مثلا ان يكون مصليا ومن المفروض على من يكتب عن الأخلاقيات ان يكون قدوة اخلاقية
فعلا اما التناقض بين الشخصية الحقيقية والشخصية
التقنية فهو غير مقبول وغير مبرر على الإطلاق
ربما نحن المسلمين نتميز بمميزة لا توجد في أي دين آخر وهي صلاة
الجمعة وصلاة الجماعة والتجمع اليومي خمس مرات في المساجد ووجود الخطباء
والمتكلمين والدعاة ولكن للأسف اشعر أحيانا اننا لا نستثمر تلك الفرصة الربانية
الرائعة التي منحنا الله اياها فكثير من الخطباء هم سبب للتنفير من الدين لأنه يتقيد
بجدول وزارة الاوقاف ويتكلم وفق ارادة الدولة فالمفروض على الخطيب مهما كان ان يتكلم من قلبه
ومن عقله ومن روحه وان لا يمسك ورقة بيديه فانت لست بمحاضرة بل انت تخاطب عقولا
متفاوتة وقلوبا مختلفة وعليك كخطيب ان تجذب الكل ولا يمكن ان تجذب احدا الا اذا
شعر الناس ببصمة روحك الواضحة في كلامك ولا يمكن ان تسيطر على الناس كخطيب الا اذا شعر الناس انك تحبهم وتريد لهم الخير
وتتكلم لمصلحتهم دنيا وآخرة واذكر موقفا حصل امامي قبل فترة بسيطة حيث ان الخطيب
نسي ورقة الخطبة في البيت واضطر الى ان يقف على المنبر وارتبك وتلعثم وبدأ يتكلم
واعترف بداية انه نسي ورقة الخطبة في البيت وطلب منا ان نعذره لو قصر في الخطبة
وهداه الله ان يتكلم عن الموت ومن فقدناهم
من الاهل والجيران ومن استشهدوا وكيف كانت
آثارهم وذكراهم ولأول مرة يبكى ويبكى بعض المصلين لانه لأول مرة يتكلم من قلبه
بروحه واحساسه ووصل صدق احساسه الى الناس
وتلامست مشاعره الصادقة وبصمة الروح في كلامه مع ارواح ومشاعر المصلين وبعدها قرر
لوحده ان لا يخطب من ورقة ابدا وفعلا اصبح من اروع الخطباء واكثرهم تأثيرا لانه
مزج بين الروح والقلب والعقل فإذا لم تكن انت مؤمنا حقيقيا تستشعر كل معاني وقيم
الايمان الحقيقي بالله فلن يشعر الناس بإيمانك لان فاقد الشيء لا يعطيه كما ان
الداعية يجب ان يكون مشفقا على الناس خائفا على الناس محبا للناس بصدق فالدعوة الى
الله ليست مهنة وانما هي مهمة ربانية تستوجب ان يكون الداعي متكلما بصدق معبرا عن
روحه وقلبه وعقله وسيشعر به الناس حتما لذلك نلاحظ انه تكرر في القرآن الكريم على
لسان الانبياء عليهم السلام لفظ (( اني اخاف عليكم )) سبعة مرات وهذا اللفظ يدل
دلالة واضحة على ان الانبياء عليهم السلام كانوا يتكلمون بصدق معبرين عن ارواحهم
الحقيقية وحريصين على هداية الناس لمصلحة الناس وحبا في الناس ولأجل الله تعالى
يقول الله تبارك وتعلى في سورة فصلت ( وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ )(33) وهذه الآية تدل دلالة واضحة على وجوب الصدق وان من يقول كلاما طيبا
وصالحا يجب ان يكون قد عمل صالحا من قبل وطبق على نفسه ما يقول لكي يشعر من يتعامل
معه انه صادق وحتى في الدعاء كلما تحرر الخطيب في دعائه من الأدعية المحفوظة والمأثورة
كلما شعر المصلين بصدقه اكثر وقالوا آمين بصدق ينسجم مع صدقه لان أرواحهم جميعا
تحلق في فضاء الرجاء والخوف وطلب الرحمة والاستجابة من الله تبارك وتعالى
ان من جمال الروح أيضا انك تستمع لقاري قرآن وتتأثر به أكثر من غيره
مع ان نفس السورة قد يقراها قارئ آخر لا يؤثر فيك لأن الأول يقرا من قلبه وروحه
ويتفاعل مع الآيات ... فمن خلال الروح يكون الإبداع ...الروح تعني الانطلاق والتحرر والانتماء
للكون كله الذي خلقه الله ونفخ فيه من روحه فأنت بروحك تنتمي الى الله وتقترب من
الله فارتقي بنفسك وبروحك دائما
لتقترب من الدرجة الملائكية
يقولون إن الجمال جمال الروح لذلك قد يتعلق إنسان بإنسان رغم عدم
جماله وقد يتعلق الشاب بفتاة ويقول لك أحببت
روحها ويخطبها ويتزوجها مع أن هناك من هو أجمل منها بمراحل لكن الجمال هو فعلا
جمال الروح وليس جمال الوجه والعينين كما ان الحياء قيمة جمالية عالية لان الحياء
يعبر عن الروح الحقيقية النقية لذلك كلما زاد حياء المرأة كلما زادت قيمتها
وجمالها وهذا لا يعني أن تتعلق كل يوم بإنسان مختلف فالتعلق بالبشر ليس لعبة ويجب
احترام المشاعر والأحاسيس وان تكون صادقا في إحساسك وان يكون إحساسك تعبيرا صادقا
عن روحك فالأرواح فعلا جنود مجندة ما تآلف
منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
ومن جمال الروح انك تتأثر بطفل يبكي او امراة تبكي او ورجل يبكي وقد
تبكي معه سواء شاهدته مباشرة او على التفاز ولكنك لا تتأثر ببكاء في فلم سينمائي
وذلك لأن المشهد الأول حقيقي يعبر عن روح وإحساس وقلب الباكي أما في الأفلام
فالمشاهد مصطنعة مهما بلغت درجة إتقانها لأنها تخلو من الروح ومن الإحساس الحقيقي
فلا تصل الى روحك
حتى الحيوانات تشعر بنواياك فلو أنت أردت إيذاء حيوان فلن يقترب منك
ولكنه لو شعر بحبك وحنانك فسيقترب منك لذلك تجد القطط تقترب من الطفل وتلعب معه
ومهما أذاها فانها تلعب معه ولا تؤذيه بينما لو قسى عليها شخص كبير قد تهاجمه او
تهرب منه وذلك لان الحيوان يشعر بروحك واحساسك وصدقك بصرف النظر عن الادرينالين
المنبعث وقت الخوف فلا علاقة له بما اقصده
الشجاعة ايضا لها علاقة بالروح فكلنا نحبها ويعجبنا قصص الشجعان وبطولاتهم لأن الشجاعة هي تعبير عن قوة الروح
بعيدا عن حسابات العقل والمنطق فمن يتطوع لإنقاذ طفل في حريق ويقتحم النار فإنه
يكون قد اتبع روحه ولم يفكر بعقله ابدا لذلك يشعر الناس ببطولته لأنهم لا يستطيعوا
بسهولة الاستجابة لانطلاقة الروح مثله ومن
يقتحم الحواجز ويهاجم جنود الاحتلال المدججين بالسلاح وليس معه الا الحجارة ويقتله
الجنود نحترمه ونقول من أعماقنا انه ضحى بروحه وانه شهيد ونعجب ببطولته وتضحيته
وذلك لانه يملك روحا لا نمتلكها نحن ونتمنى ان نكون مثله لكنن عندما نخضع لحسابات
العقل يسيطر علينا التردد والخوف والتراجع وتتقيد أرواحنا بقيود وضوابط ومعايير
العقل
ربما تكلمت كثيرا وربما يشعر القارئ ان بعض المعاني متكررة لكن هذا
التكرار مقصود لتعزيز رسالتنا
فالمطلوب منا ان نتحرر من تلك القيود العقلية وان نتعامل مع بعضنا
تعاملا روحيا حرا راقيا فالتعامل بصدق وعفوية ومحبة بعيدا عن حسابات المصالح سيؤدي
إلى ارتقائنا في تعاملاتنا وتعميم روحانية المجتمع وسنقترب من ان نكون ملائكة ولا
يمكن لمن يتعامل مع الآخرين بروحه وبمحبة
صادقة ان يرتكب أي فعل آثم لأنه لن يقبل ان تتلوث تلك الروح الطاهرة سواء روحه
الراقية او أرواح الآخرين
المطلوب ان نتعامل بمحبة صادقة وحرص على مصلحة الآخرين حتى يكون
المجتمع متحابا وايجابيا
المطلوب منا ان نعمل عملية توازن بسيطة جدا وسهلة جدا بين الثلاثي
الذي لا يجب ان ينفصل
فنعود بالجسد الى الإنسانية
التي تعني روح وقلب وعقل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق